كفر مالك – تجربة أولى للعودة

  • أنس أبو عون

في الساعة الثانية بعد منتصف الليل قال لي أن غداًً سيكون أجمل وأروع وأنه يومٌ لن يتكرر، وقال بعدها بقليل أن كل شيء سيكون على ما يرام، أنزلنا جسور المسرح الضخمة لتعليق الخلفية وكاد أن يكسر قدمه أو حتى يده، ثم عاد مرة أخرى لينزل أسفل خشبات المسرح و يرفعها ليعدل ميلان أرضها، وينطلق كأنه بين الخنادق من واحدة إلى أخرى، ثم يأمرني بإحضار بعض الحاجيات وهو يمسك حائطاً خشبياً، ثم يقول لي بعد أن يلتقط أنفاسه ويحتسي بعض القهوة، أننا نستطيع أن نكون دولة بأكملها .

نعم فحين يكونُ المفكرون والمنفذون والمؤدون والمساعدون هم من جذر واحد بالتأكيد لن يكون عواقب أمام شعلةِ هذا النور، ففي يوم 13 – 9 قدمت فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية عرضها الفني «للحرية نرقص» في قرية كفر مالك ضمن رؤية الفرقة بتقديم عرضين فنيين في قريتين كل عام ضمن مشروع شبكة الفنون الأدائية الفلسطينية المدعوم من سيدا السويدية .
لكن هذه المرة كان الأمر مختلفاً، و السبب الاهم في هذا الإختلاف أن القرية هي كفر مالك، وهي القرية التي شاركت بأبنائها العديدين في فرقة الفنون منذ تأسيسها عام 1979 حتى يومنا هذا، والسبب الثاني هو أن أعضاء الفرقة هم من عملوا على التنظيم و الترتيب لهذا العرض.
كنا نحن الأربعة قد أنهينا للتو تدريبنا، توجهنا إلى كفر مالك وقد كانت الساعة الحادية عشر ليلاً، ورياح تل العاصور تفيضُ بالغضب من شدة البرد. وبهدوء الأعصاب حين تشعرُ بإرتفاع حرارة جسدك بعد العمل على شيء متعب، وهناك لا تستطيعُ التأقلم بسرعة مع نفسك، وأنتَ تدور حول المسرح حيناً و أرضٌ عاليةُ وأخرى متوسطة المزاج، جائني يقول لي أنه لن يحضر غداً أقل من ألف مشاهد من كفر مالك والقرى المجاوة أيضاً، فسألته إذا كان لا بد من إضافة المزيد من الكراسي للجمهور، لكن قال أنه لا بأس بالقليل من الجمهور واقفين.
أشعرني حين كان يحملُ القطع الخشبية ويتسلق الجدار وهو قد تجاوز الأربعين من عمره أنه عاد شاباًً في هذةِ الليلة بالخصوص، لأن شيء ما سيعود غداً، أما نحن الثلاثة فقد كنا ننفذُ الأفضل لنا، ونصنعُ الأجمل لغدنا لا شيء أكثر، لكني وقفت قليلاً في مذاق القهوة السادة في الساعة الثالثة صباحا ً وقد كانت الأشياء تتجهز على نحو كامل تقريباً، من نحن في هذةِ الفوضى العارمة في مجاعة العقل نحو السؤال.. من أنا، لكني لم أتورط كثيراً في تأؤيل السؤال والبحث ِ عن حقيقة تعين تأخري، فرقة الفنون تصنعُ رقصاتها و تبني مسرحها وترقص عليه؛ وها نحن كل شيء، فمدير الفرقة  و أربعة راقصين يعملون على جميع الإحتياجات التقنية.
في صباح اليوم التالي (يوم العرض) لم يكن يعلم باقي أعضاء الفرقة ولا حتى نحن أنه اليوم الذي سيشكلُ تاريخاً نذكرهُ نحن الجيل الثالث في الفنون، أكثر من ألف مشاهد، عشرات المتطوعين، ويبدأ العرض، وكما إعتدنا في عروض كثيرة سابقة لم تشكل سوى نتوش فوق ذاكرتنا، أن الجمهور هو من يخلق روح العرض الفني، وإن كان المؤدون في قمة نشوتهم الأدائية فأن ذلك ليس منّا بل من الطرف الآخر الذي تعطيه أنفاسا ً يعشق نكهتها فيبادلك بصنعِ روحٍ تلمسُ فيك غضبها.
الجمهور يلتفُ حول المسرح مشكلين لوحة ثانية على الأرض، و عضو قديم بالفرقة يرقص على جانب المسرح، وإحدى النساء تزغرد، لم يطُلب منّا الجمهور سوى مرتين في تاريخ الفرقة أن نعيد رقصة الختام، إلا أنه في كفر مالك كانت المشاعر في المرة الثانية أصخب من المرة الأولى.
هنا أدركتُ جيداً وكأنني آمنت ُ بما كان غير مرئي من الإعتقاد، وأن الشك صار يقينا ً، نعم نحن فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية، لا غبار فوق دربنا القادم، ولا بؤس سوى للساهين والمرضى، نحن ُ نقدمُ للناس ما يريدهُ الناسُ في أعماق قلوبهم، تلك التجربةُ الشعبية الوطنية الأرضية، تعودُ بكنعان إلى تل العاصور فوق حقيقة مطلقة التعاريف و المعاني، تحمل ُ حقائب رحيلها قاسمة أنها لن تعود إلا بتفجير ِحلمٍ يصيب كل الجرحى بهوس الأمل، بأن الأرض لا تعرف ُ سوى أولادها، وأن رائحة الموج فوق الجرح القديم لن يكون مؤلماً، فقد مرت القوافل كلها إلا أن الصحراء لم تنكر لأحدٍ منهم الجميل.

رام الله
هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته

أرشيف فلسطين الشباب