لا زَالَ للقِصَة بَقِيَّة

  • منتهى غوادرة

كَوَرْدَةٍ فِلَسْطِينِيَّةٍ أَرخَت ظِلَّهَا فِي أَزِقَّةِ القُدسِ القَدِيمَةِ، ظَلَّ سُكَّانُهَا يُراقِبُون الضَّوءَ الخَافِت مِن شُرُفَاتِ
بُيُوتِهم البَعِيدَة، حَيثُ تَتَجَمَّعُ رِوَايَات الحُرِّيَّة قُربَ مَدِينَة القُدس.


مَا زِلنَا نُشْعِلُ الأَضْوَاء فِي سَاحَاتِ المَسْجِدِ الأَقْصَى لِنُلَوِّنَ الوَرْدَ وأَورَاقَ الشَّجَر بِتِلكَ الأَدْعِيَة والصَّلوَات فِي الطَّرِيقِ إلى القُدسِ. احْتَفَظنَا بذِكريَاتِنا فِي شَوارِعِهَا وَأَسواقِهَا وَأَزِقَّتِهَا كَنُجُومٍ جَنَحَت نَحْو الغُرَوب فِي أَعَالِي الجِدَارِيات، تَسَللَ النُورُ مِنْ ثَنَايَا الصَّبَاح لِيُشَارِكَنَا قَهْوَتنَا الصَّبَاحِيَّة فِي مُلْتَقى القَلْب، هُنَا القُدس بِكَيانِهَا وَشَجَاعَتِها تَنَاثَر الزَّهرُ دَاخِلهَا كَمَديِنَةٍ سَمَاويَةٍ حُدَودهَا نُجُوم اللَّيل فِي وَطَنٍ يُشبِه
مُخَيِّلة الوَرْد لا أقَل ولا أكثَر،  هَكَذا مِثلَ ما يَنبَغِي تُكْمِل الجَدَّات الفِلَسْطِينِيّات سَرْد قِصَص اللُّجُوء والمُعَاناة  عَلى مَسَامعِ أًحفَادِهن.
هَل هُناك أَلَم أَشد التِباساً عَلى القَلْب حِين تَفقِدُ وَطَنَك وأَرضَك؟
يَوماً مَا سَتَطوي الغُربَةُ ذِكْرِيَاتِها، سَيَرتَفِعُ الشَّعبُ الفِلَسْطِينِيّ حُرَّاً، سَيَخِفُ العِبء عَن الفَرَاشَة لِتَتَحَرَّرَ
مِن حُزْنها الرُّخَامِي فِي رَسَائِل اللَّاجِئِين، لَم يَكْتُب قِصَصهم مُؤلِفٌ آخَر، كَتَبُوا عَن مُعَاناتِهم بِمهَارةٍ، حيث تَنَاثَرت الذِّكْرَيَاتُ فِي طُفُولَتهم، ظَلُّوا يقْطِفُون الوَرْدَ مِن ذِكْرِيَاتهم لِيكْتُبُوا رِوَايَاتِهم الصَّغِيرة كَسِيرَةٍ ذَاتِيَةٍ عَن أَوطَانِهم وبُيوتِهم الَّتِي هُجِّروا مِنها بِالقُوة بِفِعلِ الاحتِلال، فِي مُخَيَّمَات اللُّجُوء والغُربَة
كَانَوا الشَّاهِدين الوحِيدين عَلَى مُعَاناتِهم، ظَلُّوا يَتَمَسَّكُون بِحَقِّهم فِي العَودةِ إلى وَطَنٍ عَاشُوا
فِيه سَنَواتِ طُفُولَتهم الأولَى فِي مَدَارِسِه، تَعَلَّمُوا القِرَاءة والكِتَابة وكَانوا يَقْرؤون عَلَى أَسوارِ المَدرَسَةِ شِعَارَاتٍ خُطَتْ بِالألوَانِ العِلم نُورٌ وَالجَهْلُ
ظَلام للوَطَنِ الَّذِي عِشْنَا الحَيَاة عَلَى أَرضِه بِكَرامَةٍ وَبِعزَّةٍ وَسَنُوَارَى بَينَ تُرابِه وَثَنَايَاه الثَّرَى، كَتَبنَا لأَجْلِه
قَصَائِد الشِّعر والنَّثر وسَنُعَلِّم أَبْنَاءنَا أَنَّ كُلَّ المَلاجئ مِن دُونِ الوَطَنِ كَاذِبَة فَلم نَخسَر شَيئاً مَا زِلنَا نَملكُ أَوطَانَنَا، التِّي تُشبِه وَرْداً أَبيَضَ اللَّون كَشَهِيدٍ غَنَى فِي حُب الحَيَاة تِسعاً وتِسْعِين أُغنِيَة ثُمَ إسْتَشْهَد
بَينَ بِدَايَة وَنِهَايَة هَكَذَا تَنحَصِر الحَياة، يَبدُوا العُمرُ قَصِيرَاً تَغمُره التَضحِيَات وَلَكِن لا زَالَ لِلقِصَة بِقَيَّة، كَشَمسٍ ذَهَبِية تُشْرِقُ فَتَنثُر أَشَعتَها عَلَى شُرُفَات البُيُوتِ العَتِيقَة تُعِيدُ نَسْجَ خُطُواتِ النَّهَار، تَمنَحُ الفُرَص تُجَدِدُ أَشَعَتُها شِعَارَاتِ التَفَاؤل وَالإيِمَان، فَلَم يَكُن الأَمْرُ بِتَلكَ العَشْوائِيَة التِي يَظُنُها البَعضْ، فكلُ
شَيء كَانَ قَدَراً نَافِذاً وَأَمْرَاً مَحْتُوماً، قَنَادِيلٌ تُطَفىء وَأُخْرَى تُشْعَل وُرُودٌ تُهْدَى وَأُخْرَى تَذْبُل فَتَركْنَا لِرحْمَة
الرَحْمَن، أَيَامَنَا قُلوبَنَا وَسَنواتِنا القَادِمَة، كَسِيرةٍ ذَاتِية مَا زِلنَا نُخَبيء بِينَ الأسْطُر وَالأَورَاق حُروفَنا نَبضَنا المُمتَزج بِالفَرح والحُزُن فلا زَالَ للقِصَة بَقِية لِتَمتَد كُل تِلكَ الطُّرُقَات الطَويلَة بِأقْدَارٍ رُسِمت بِكُل تَفَاصِيلِها كيوم صيفي جَمِيل تَتَبعثَرُ فِيه الغُيُوم الهَادئَة بحرية فِي سَمَاءٍ زَرقَاء كَأطْفَالٍ يُشْعِلونَ قَنَادِيلَ الصَّيف يَفْرَحُون يَمْرَحُون يُطَيُرونَ طَائِراتِهِم الوَرَقِيَّة كَطُيورٍ تَبْسُطُ أَجْنِحتِها
فِي سَمَاءٍ وَاسِعَة.

 

أرشيف فلسطين الشباب