أنتمي لكل هؤلاء

  • رهام رياض

عندما أدركت أن الانتماء لكل شيء يعني الانتماء إلى لا شيء..

 

 

غريب جدا ما يحدث في أوطاننا يا عزيزي، أخبرتني أنت ذات يوم أن مجرد العيش داخل الوطن كرامة، و أن أشد درجات الهوان تلحق بالمرء خارج حدود بلده، وقد صدقتك وقتها، وذهبت ونقشت كلماتك على دفتري الخاص و نسبتها إليك تحت مسمى "حبيبي الوطني".

و الآن و أنا قد فقدتك بسبب تلك الوطنية المفرطة لديك، ذهبت لأطالع كل تلك النصوص التي قلتها، لكني الآن أتلقى صفعات غير مباشرة مع كل نص أنت قائله، أحيانا أفكر كيف كنت أصدقك؟! لمّا قلت لي أننا سنعقد قراننا في الأقصى، وأنك ستقيم حفلاً كبيراً في البلدة القديمة، وأن الحضور سيكونون نفر غفير يحمل الأعلام الفلسطينية، قلت لي أنه من شدة الفرحة ستغني جدران القدس أهازيجنا! لكن أحلامك كانت أكبر حجما منك يا صديقي، تماماً كما هي كلماتك التي تصفعني لأني صدقتها، و صدقت كل همساتك في أذني اليمنى، و لمساتك وأنت تمسح دموعي التي كانت أحاديثك في أمسياتنا السياسية سبباً فيها.

عندما أتذكرك في هذه الأيام، تراودني فكرة ما الذي جلَبَته معرفتي بك، أي أمر حسن حصل لي بمعرفتك، ما الفائدة التي جلبتها لي أحاديثك السياسية، لماذا كنت متحمسة جداً وأنا أستمع لخططك المستقبلية لاستفزاز الاحتلال، لقد ساعدتك فيها، أتذكر أيها الغائب عني وعن الوطن!

أتمنى فقط لو تخبرني، لقد كنت صبية سعيدة تعيش حياتها على سجيتها، ببراءة طفلة، وعفوية شابة، كنت أضحك و أتنزه مع رفيقاتي على الدوام، وكان أكبر همي إقناع والدي بشراء أحدث هاتف في السوق، كانت أصعب قراراتي التي تأخذ جل وقتي هي اختيار ألوان ملابسي و تصاميمها، كانت حياتي تتلخص بالتحضير للحفلات والتباهي بغنى أبي.

أتيت لي بفقرك ووطنك، و قلبت حياتي. تبا لك و لوطنيتك يا صديقي. قد تظن أنني شابة سيئة، فليكن إذن، فهذا دفاعي المهترئ أمام أكاذيبك!

-أكاذيب ..أنا ؟!

-أجل، أكاذيبك أنت عندما كنت تخبرني دوماً أن أتفائل، وأنّ القادم أجمل، وأن فلسطين غداً وقريبا ستكون حرة! أعطيتني أملاً خائباً منذ البداية، وصدقتك، فأنت اعتدت أن أكون ساذجة فتاة تصدق كل ما يقال لها.

هل تعلم ما يحدث في وطننا المسكين الذي اعتاد أن تكون الشهامة صفة أبنائه، هل تعلم أن وطن عرفات وياسين والشقاقي وأبو جهاد وأبوعلى وكنفاني ودرويش وناجي العلي و إدوارد سعيد، هو ذاته الوطن الذي يخترق أحشاءه سياسيو اليوم.. أتصدق يا عزيزي! في إحدى مقولاتك أشرت إلى أننا وطن واحد متكاتف ضد محتل ساذج، ولكن الحقيقة المرة يا صديق أننا تغيرنا.

صرنا في اختلافاتنا نضع الاحتلال على جهة ونبدأ بمحاكمة بعضنا، هل وصلك الخبر بأننا نترصد أخطاء بعضنا؟ إذا حصل خطب في غزة اتهموا حماس، وإن حصل خطب في الضفة  نسبوا الأسباب بجلها لفتح. وفي غمرة انغماسنا في شتم بعضنا و تتبع أخطاء بعضنا، يقف الاحتلال بثقة ليضحك علينا.

وفي اللحظة ذاتها التي نختلف فيها، غفلنا عن أحد أهم أهداف الاحتلال، هو أن نكون بلا دولة، أتعلم كيف؟! بحكومة بلا سيادة، ورئيس بلا هيبة -يتسابق الجميع لسبه-، بشعب يقضي نهاره و ليله بتتبع بعضه والتدخل بشؤونه وافتعال المشاكل مع جيرانه!

هكذا يا فتى، دولة شكلية. أتذكر أيضا تلك القضية التي أخبرتني عنها؟ قضية الوطن والنكبة، ومجازر صبرا وشاتيلا ودير ياسين وحصار بيروت، تلك القضايا، القدس، الأقصى والكنيسة.. أتذكرها؟

لم تعد تلك قضايانا، لا تقلق، فالقضايا التي تشغلنا الآن أكثر أهمية للعيش.

قضيتنا، كهرباء و ماء و لقمة عيش و وظيفة! هل يتبادر إلى ذهنك أني فقدت الاحساس بالوطن الذي يبكينا في كل لحظة..

لا لا. فأنا لا أزال كما أنا، كما علمتني، ولكني لست فلسطينية فحسب أنا فتحاوية وحمساوية وللجهاد والشعبية والأحرار و كل ما تعرف من فصيل على هذه الأرض. أجل، أنا أنتمي لكل هؤلاء، إن كان كل هؤلاء يعني وطني.

أتعلم أمراً، عندما كنت أفتش على فلسطين الحقيقية، تماما كما فعل "سعيد" في رائعة غسان كنفاني "عائد إلى حيفا" لم أجد فلسطين في غزة ولا حتى بالضفة، ولا في الأراضي المحتلة عام 48، آسفة أنني لم أجد فلسطين في أي من هؤلاء، وآسفة أكثر أني لم أجد أياً من هؤلاء في فلسطين! عندما آلمت قلبي برحيلك تداعى سائر جسدي وتألم، ولكن لما تألمت القدس دمعت بعض المناطق ولم تنتحب.

صرت أتبرم من كل شيء.. صحيح؟!

تبرم درويش قبلي وقال "لا شيء يعجبني!"

 

غازلتني يوما بأني أوكسجين حياتك، ولكن أرجو أن تحيا في منفاك بدوني، أنت قلت أن العيش خارج الوطن هوان. مقدسية مثلي تأبى الذل، لن ألحق بك بإرادتي.. من يدري، لعل الاحتلال يصدر حكماً بالنفي عليّ، تماماً مثلك..

هل أنت قلق الآن؟ لا تخف، لن أفعل أجمل مما فعلت.

فلسطين بحاجة إلى الحب! إلى "ع ش ق" كما كنت ترتلها حرفاً حرفاً.

أرشيف فلسطين الشباب