كل شيء قابل للانكسار

  • عبلة جابر

لا شيء يكسرني كدمع الرجال..

 

 

أحاول أن أهدئ، أُغمض عينيّ لدقيقة في محاولة تنظيم نبضات قلبي ليتسع مجرى الهواء قليلاً. أقف وجهاً لوجه عاريةً من كل شيء سوى قسوة الحياة، أراهم جميعاً مرضى ومتعبين، غاضبين وحالمين، صغاراً وكباراً رجالاً ونساء، أرى وجوهاً كثيرة تأتي وتذهب. مشهد يتكرر لمراتٍ عديدة، نفس السيناريو كل يوم ونفس القلق.. حوارٌ بسيط يدور بيننا يتجرد من كل معاني الإنسانية، حوارٌ يشي بوحشية العالم والواقع، وماديته المطلقة.

عذراً لكل هذه السنين التي ضاعت مني، عذراً لهذا العلم الذي تكدّس في جيوب عقلي السريّة، عذراً لكل هذه النظريات التي حفظتها والأخلاقيات التي تعلمتها، سأكفر بكل شيء الآن.

أنا التي كانت تحلم بأن تصير طبيبةً ذات يوم وشاعرة.. أنا التي كنتُ أنظر للحياة من داخل زجاجة عطر، سأكفر بكل شيءٍ الآن.. لا بأس.

مؤسفٌ أن ينهار كل شيء لحظةً واحدة، القيم، العلم، الأخلاق، الدين وكل شيء.. لتنتصر المادة التي نصلي لأجلها كل يوم..

هذه القروش القليلة أو الكثيرة، هذه الدولارات أو الدنانير أو الشواقل التي يغلفها البعض في أكياس نايلون شفافة يحكمون الرباط عليها برباطٍ مطاطي، ثم يدسونها بطريقةٍ آلية داخل الهوية الزرقاء أو الخضراء لا فرق.. لا أدري لماذا اتفق الجميع في أعماقهم بأن هذه أفضل وسيلة لحمايتها من الضياع أو السرقة.. فلا أحد سيفكر بسرقة هويتك ربما.

بدايةً كنتُ أستهجن هذه الطريقة الغريبة نوعاً ما، شيئاً فشيئاً اعتدت عليها حتى ألفتها، لا أكذب حين أقول بأني بدأت استمتع  بمشاهدتهم يفكون الرباط  ليخرجونها من مخبئها السري.. يدخلون ويخرجون.. تتشابه الوجوه أكثر مما نتصور، هكذا أحادث نفسي سراً وأنا أدقق النظر في ملامحهم الخفية.. نفس الابتسامة الكاذبة المغموسة بقطرات العرق، نفس العيون المتيقظة الناعسة من فرط الإرهاق واحتقان الدمع في أعماقها، نفس الصوت المختنق بسعال الوقت.. أفكر بهذه النظرية وأنسى النظر إلى الورقة التي أمامي.

تيقظت على صوته محتقناً ممزوجاً بسعلةٍ طويلة، قال وعرقاً خفيفاً يلمع في عينه اليمنى: (أديش حقهم يا عمي؟) تنبهت إليه، كان رجلاً في منتصف العقد السادس من عمره، قافلة ُ دمعٍ قادمة من أعماق قلبه تبان مع كل لفظةٍ يلفظها، اصطكاك صوت أسنانه، رجفة يده اليمنى، الورقة التي تتأرجح في كفه وكأن ريحاً عاصفاً تجتاح المكان دون أن أدري.. لوهلةٍ نسيت موقعي نسيت كل شيء، فجأةً نسيتُ كل هذه الأسماء التي أحفظها، نسيتُ اللغة وفك طلاسمها، استرقت النظر مرتين للورقة دون أن أجرؤ على أخذها منه، كان يمسكها بخوفٍ مسكون، أعاد سؤاله مرتين (أديش حقهم  يا عمي؟) سأكفر بكل شيءٍ الآن نعم..

تراجعت للخلف خطوتين.. شيء ما دفعني للاختباء بعيداً.. كان الصيدلاني المشرف على تدريبي قد أتى، استهجن كل ما حدث لي.. وجدتهُ أوتوماتيكياً يمسك الآلة الحاسبة -هذه اللعنة التي حلت علينا- يسجل رقماً ويضيف آخر ببرودٍ مخيف وكردٍ آلي يقول 286 شيقل يا حج، دون أن يسأله حتى عن اسمه.. ابيضّ وجهه أو هكذا خيل لي.. سمعت صوت اصطكاك أسنانه مرّةً أخرى، سعلة ٌ طويلة امتزجت بكلماتٍ لم أسمعها جيداً، أظنه شتم الزمن أو المرض أو كليهما، أظنه ألقى اللعنة علينا نحن الذين نتاجر بآلامهم، نحن (سماسرة الأرواح) هكذا يحلو لي تسمية ما يحدث هنا.

نظرت إليه وأنا أصارع حرباً بداخلي بركاناً اندلع ولن يخمد، كانت الورقة لا تزال تتأرجح في كفه حين أحكم قبضته عليها، رأيت غضباً يلوح في ظهر كفه، هذه الورقة التي ظنها تعويذة ستقيه من نوبة الربو التي تصيبه، هذه الورقة المشؤومة الملعونة التي تشي دوماً بضعفه، بريق دمعٍ احتقن في عينهِ اليمنى أكثر، زمّ شفتيه ومضى وصوت اصطكاك أسنانه يعلو أكثر فأكثر كبحرٍ لا يهدأ.

سأكفر بكل شيءٍ الآن.. لا بأس..

ما الفائدة إن كنتُ أحفظ أعراض المرض وفسيولوجيا الأعضاء وتركيبة الدواء، ما الفائدة إذن؟ وأنا أنكر نفسي كل يوم مائة مرة، أتجرد من كل ما تعلمته لأن شيئا قذراً اسمه المال يتحكم أوتوماتيكياً بأفعالنا، تجدنا تلقائياً ندخل بجدلٍ يطول ويقصر حول خمسة شواقل أو أقل، بحجة الربح والخسارة، وفي النهاية نمسك العلبة لنعيدها للرف بجمودٍ قاتل، ما الذي سنخسره تحديداً؟ لم أعد أدري.. سأكفر بكل شيءٍ الآن. خلف أسوار الصيدلية، وزجاجة دواء منتهية الصلاحية، هنا كل شيء قابل للانكسار.

أرشيف فلسطين الشباب