بنحب نعيش..

  • داليا ملكي

كان هناك حشدٌ أمام مجلس الطلبة في الجامعة، كما يحدث دائماً عند كل تصعيدٍ لأوضاع أسرانا في سجون الاحتلال. المئات من الطلبة مجتمعين، أعضاء المجلس والحركات الطلابيّة يلقون الخطابات،

بينما ترتفع ألحان أغنية «عوفر والمسكوبيّة والسجن الّي بالصحرا..» في المكان. أقف مكاني، أشاهد، أستمع ويدفعني شعورٌ قويّ بداخلي للمشاركة في الاعتصام أمام سجن عوفر؛ أيعقل أنّ أكون فلسطينيّة ولم أعرف طعم المظاهرات والاحتجاجات من قبل؟! أيعقل أنّ نتحدث عن الأسرى، أولائك الذين فنوا حياتهم فدى الوطن وشعبه، وأنا أبخل عليهم بقليل من وقتي لأعبر عن مدى احترامي وامتناني؟! ولكن خوفي كان يمنعني من أن أخطو خطوة واحدة في هذا الاتجاه.

وأنا عائدةٌ أدراجي ألتقي بزميلتي التي سألتني «نازلة ع عوفر؟» وبصراحة لم أتوقع أنني قادرة عليها، قلت لها «خايفة»، اجابتني «كلنا بنخاف، كلنا بنحب نعيش» لم تحتج إلى جهد أكبر من هذا، فجملتها تلك كانت كافية لإقناعي.. وها أنا أجد نفسي جالسة في الباص المتجه إلى عوفر بانتظار أنّ يمتلئ. ما زلت لست واثقة من قراري هذا، أفكر.. ولكن.. امتلئ الباص، أقفل الباب.. انتهى.. لم يعد هناك مجالٌ للتراجع. أجلس مكاني، مضطربة، قلقة، ضربات قلبي تتسارع ونفسي ينقطع أكثر كلما اقتربنا من المكان، أحاول أن أسترجع ما حفظت من آيات القرآن لعلّ الله يرحمنا ويهوّن علينا ما في انتظارنا هناك. ولا يبدو أنّ هذا كان حال «ذوي الخبرة» ممن حولي اللذين كانوا يتحدثون ويتبادلون النكات وكأننا ذاهبين في رحلة مدرسيّة، عليّ الاعتراف أنّ سلوكهم هذا قلل من مخاوفي، وجعلني أندمج في الحديث وأفكر في شيئ آخر.

في الموقع بعض الشبّان كانوا قد أحضروا صور الزعيم الفينزويلّي الراحل «هوجو شافيز» إذ صادف ذلك اليوم يوم وفاته... أنظر من حولي، لا أعرف ماذا باستطاعتي أن أفعل ولا كيف يمكن أن أقدم المساعدة، البعض يضع سلاسل من الحجارة، والبعض الآخر يشعل أعجال السيارات كي يعيقوا تقدم الجنود حال وصولهم. دقائق معدودة وتبدأ المواجهات، ترتفع أصوات الرصاص، رجعت إلى الوراء وبدأت أشاهد ما يجري...

ذهابي إلى عوفر كان ليعبر، عن ذلك المزيج من المشاعر التي تختلج نفس كل فلسطينيّ، تلك المشاعر التي نمت وانتقلت عبر الأجيال لتصبح جزء من الذاكرة الجماعية، مشاعر ربما يصعب التعبير عنها بالكلمات؛ لكنها تجمع بين الاحترام والإعجاب والفخر والامتنان؛ الامتنان لكل ما قدموه من تضحيات في سبيل غد أفضل لنا جميعا.

لكن عندما وقفت أمام الجندي – ليس أمامه فلم أجرء على الاقتراب كثيراً، بل وقفت جانبا أراقب غيري ممن كان يواجه مباشرة-  وجدت أن هنالك حلقة مفقودة، فلم أشعر بأن تلك الوقفة وذلك المشهد الذي تكون أمامي، كان يعبر عن ذلك السيل من المشاعر، أو كان ليوصل الفكرة التي وددت إيصالها. لم أفهم لماذا في حينها إلا أنه مع مرور الوقت، وجدت السبب؛ وكان يكمن في أن كثيرا من المتظاهرين هناك كان لديهم قصصهم الشخصيّة مع ذلك الجندي، قصصهم الشخصيّة مع كل ما يمثله ذلك السجن، تلك الأيام والليالي التي قضوها في انتظار أب طال غيابه، تلك الضحكات التي ما عادوا ليشاركوها مع أخ أو صديق لهم أصبح يقبع وراء القضبان، تلك الذكريات التي حرموا من أن تكون لهم مع جد أو عم أوخال أو ابن عم أو ابن الجيران... ثم ماذا؟ سيطرت علي فجأة تلك الغصّة؛ فأنا عندما أعود إلى البيت سأكمل حياتي بشكل طبيعي؛ آكل وأشرب، وأشاهد التلفاز، وأخرج مع الأصدقاء، وأحتفل بالمناسبات العائليّة... كيف يمكن لمشاعري تلك أن تنفع ذلك الأسير؟! ماذا سينفعه أن اعتبره بطلا، هل سيعيد له حريته المسلوبة؟! هل سيعوضه عن كل التجارب والخبرات التي كان من المفترض أن يعيشها خارجا؟!

ذهبت وأنا مليئة بالحماس والثقة لكل ما يمكنني أن أفعله، ولكل ما يمكن لذهابي أن يقدمه لهؤلاء الأسرى، وعدت ويتملكني ذلك الشعور بالعجز والضعف فأنا أفتقد لتلك القصّة. شعرت في تلك اللحظة بأنني خارج المكان والزمان.

لم أستطع أن أمكث طويلاً في الموقع، ركبت سيارة سيرفيس وعدت إلى البيت، إلّا أنه ولأن لكل شيئ وجهان فعلى الرغم من حزني كنت سعيدة لمشاركتي المتواضعة هذه، شعرت وربما لأول مرّة بأهمية انتمائي لجامعة وطنيّة؛ هذه التجربة لن يعرفها غيرنا ممن يدروسون - في سنواتهم الجامعيّة الأولى- في الخارج، هذا الالتحام مع الواقع، الانصهار مع الوطن هو ميزةٌ قد تساوي في أهميتها شهادات أرقى جامعات العالم. فخرت بهذا الرصيد من الشباب والشابّات الذي نملك.. هذا الشباب المضحي هو من يستحق مواقع عليا في المجتمع، شباب يفهم عمق المعناة، ويعي جيداً هول المأساة، ويستشعر أحلام الشعب وطموحاته واحتياجته.

أرشيف فلسطين الشباب