تحركت السيارة في امتلائها، صوت فيروز ينسكب في الجسد العطش"...انت الأساس شو بحبك انت...هيدا انت" فيروز في الشتاء غزو أنثوي مشتهى..
أسرعت السيارة وشرب جسدي الصمت.الشارع الممتد بلا نهاية يسير بلا مبالاة، يتلوى، يختفي، ينتظرنا قرب حاجز يدعي الحياد. جندي أبله يقترب المكان من خوفه، ويشير للسائق، يد على الزناد وأخرى تمتد لأخذ الهويات، يهادن الوقت ويتمتم بتعويذة استحضرها بتوجس الغريب في المنفى، ربما أمه منحته حنينها لأرض الحلم، أو ربما بللته حبيبته الصغيرة بدموعها، تتعلق به لعل رائحته تعلق بها كما الأطفال، "هذا هو الواجب" تهمس في أذنه، تضمه بقوة وهي تتمتم"عد إلي فالدولة في انتظار أبنائنا"، لكن رائحة خوفه تنتشر في أرجاء السيارة، يشعر بشيء ما غريب، كأنه ظل للألم،"لا شيء يوجعه" كهذا الخوف، فيبهت وجهه بابتسامة صفراء، بمهل يتحسس جسده ويتنهد بصوت عال حين يستيقن أن أعضاءه في أمكانها المعتادة، يلقي بالهويات بسرعة ويعود أدراجه راكضاً.
" يا للمسكين لديه بقية من إنسانية" أقول لنفسي، لكن المرأة الطاعنة في السن تصرخ "الله يلعن أبو.. أبو طلعنا من اللد وهو ما بدو يفوتنا على نابلس"، يسألها راكب شاب " شو عرفك يمة؟" فتجيب دون تفكير" هو والله متأكدة، محروق الوالدين أنا بنساه وكأنه هو بشبه بالخيط والأبرة". صمت الكل مرة أخرى.على جانبي الشارع تتناثر أشجار اللوز بزهورها البيضاء، تتمايل مع النسائم الرقيقة، تلقي التحايا على العابرين.البيوت هي الأخرى تنحت سفرها في صدر الأرض وتقلص الزمن الرمادي بين الطريق والمدينة، الطريق والحاجز، بين نفسي ونفسي حين تلفظ الأولى أنفاس الصبر، وتوقظ الأخرى وجع الأرض ينتزع قلبها حاجز.
يندفع الزمن فجأة، تمضي لافتة بسرعة ( تمهل، حاجز أمامك)، تتمهل السيارة. حاجز آخر وجندي آخر يشبه الأول وكأنه هو، أو ربما أحد أقربائه أو...لكنه لبق بعض الشيء يحمل ابتسامة، يلصق وجهه في النافذة ويحدق فينا " كلنا مشتبه به" وددت أن أخبره، لكنه حرك يده كأننا"شيء متروك" وقال بصوت مجرد" يوم توف...".
"تفو عليك وعلي جابك من البلاد الغريبة" فاجأتنا العجوز.. اختنق صوتها مكملة "مش قلتلكم أبوهم النذل طلعنا من اللد وولاده بدهم يوخذو الباقي".
وأخيرا نابلس بثوب الندى والبرودة تعانق السماء. أحمل قلبي بين ذراعي بفرح، قبل عامين كنت طالبة والآن مزيج من تلك الحمقاء التي كنتها والمرأة التي صرت. ما أجملها!
شعرت بحاجتي للرقص، الجبل يغني، الشارع، البيوت، وجسدي يتثنى بحرية، يقلد ضجره، سخطه، والحب الذي كمن فيه.
توقفت السيارة لنهبط وتذكرت سؤال أحدهم عن نص كتبته قبل عام" هل كنت أنا؟ أأنا من كتبته في النص " لم أعترف حينها، واليوم لا أذكر" تنسى كأنك لم تكن" سأجيبه.
في جامعة النجاح كنت في حضرة الكل، وكأن الآخرين الذين نقلوا أمتعتهم من ذاكرتي عادوا ليجالسوا أمكنتي، وكأن الوقت لم يمض والفكر لم يتغير، هناك في الزاوية ثائر بهدوئه المنذر بالعاصفة، أيمن، محمد، أنس وضحكته العالية، بشير وغرامياته، طارق، فيصل ورواياته، عاصم.. شذا، رنا، لبابة، ملك.. وكأن الحياة دبت في رميم الذاكرة وكانوا هم أول من رأت حين فَضّت عنها موتها واستفاقت...ذاكرتي"كذبتي الصادقة" من أجل الحياة.
في الجامعة رأيت معاذ، الجندي الأبله اشتبه به فاعتقله، خشي أن تراه حبيبته الصغيرة فتمنحه حبها، أو ربما أدرك أنه اشتم رائحة خوفه، فلم يمنع نفسه من الابتسام..ضحك معاذ ونسي أمر السجان والفأر الذي آنس وحدته ولجوء المكان إليه، وهيئ نفسه لجندي أبله بحذاء ثقيل.
وفيها التقيت بـ"سري" الصغير: "سنتان ألا تكفيان؟...حان الوقت كي تكفي عن العبث بما بقي لديك من عمر"قال لي، فابتسمت.
في نابلس كنت في حضرة كل شيء، الذكريات، النسيان، الرغبة. لو أن الزمن يعود يوماً فأجثو وأطلب السماح عن أخطائي، أحب بقدر ما أستطيع و أنسى بقدر ما أستطيع، وأدع الذاكرة"تركض ورائي سدى".